عِمارةُ الأرضِ في الإسلامِ

ميسان السادات
February 29, 2024

لمحةٌ بسيطةٌ عن الكاتبِ:

جميل عبد القادر أكبر، مهندسٌ معماريٌّ من مواليدِ السعودية 1984م، حاصلٌ على البكالوريوس من جامعةِ الملكِ سعود بالرياضِ في عام 1977م، وعلى درجتيّ الماجستير والدكتوراةمن معهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا 1984م. باحثٌ في مجالِ العمارةِ والتخطيطِ والقانونِ، ومهتمٌّ بالفكرِ والأثرِ للشريعةِ الإسلاميّةِ على المجتمعِ والعمرانِ،وما يتعلقُ بها من قضايا وحقوق. دَفعَهُ اهتمامُهُ وشغفُهُ في هذا المجالِ إلى تأليفِ العديدِ من الكتبِ، منها كتابُ "عِمارةُ الأرضِ في الإسلامِ" فهو تفسيرٌ عِمرانيٌّ للشريعةِ الإسلاميّةِ الخالدةِ، فهو يَجمعُ بينَ الشريعةِوالقانونِ والعمارةِ والتّخطيطِ والسياساتِ البيئيّةِ وغيرها.

 

إن كنتَ من أولئكَ المهندسينَ والمخطّطينَ الذينَ يحاولونَ إبعادَ الشريعةِ عن حقليّ العمارةِوالتخطيطِ (وأرجو ألّا تكونَ كذلكَ) بدعوى أنَّها اقتحامٌ غيرُ ملائمٍ وأنَّ كلَّ مجتمعٍ أدرى بدُنياهُ، ومِمّن ينظرونَ إلى

المدنِ الإسلاميّةِ بنظرةٍ عاطفيةٍ مصحوبةٍ بسوءِ فهمٍ أو مورثٍ تراكميٍّ خاطئٍ، أو مِنَ الذينَ لم يُوفوا الموضوعَ حقهُ مِن بحثٍ وإلمامٍ في العمارةِ والتخطيطِ، فهذا الكتابُ موجّهٌ لكَ عزيزي القارئ.. فكتابُ "عِمارةُ الأرضِ في الإسلامِ" طَرحٌ فكريٌّ منهجيّ، وليسَ مرجعاً تاريخياً في العمارةِ أو كتاباً فقهياً عنِ الشريعةِ في العُمران. فهو ينطلقُ مِن رَبطِ غرائِزٍ ومسلّماتٍ لتوضيحِ عُمقِ الشريعةِ وحكمتِها وصلاحيّتِها لكُلِّ زمانٍ ومكانٍ. سيجعلُكَ تَعيشُ الأجواءَ والأحوالَ مِن خلالِ صُورِهِ المُرفَقةِ مِن مُختلَفِ المُدُنِ الإسلاميّةِ في شتّى بقاعِ الأرضِ وكأنَّكَ زائرٌ فيها.

برأيِ الكاتبِ، إنَّ العقلَ هو المرجِعُ الأساسيُّ في جميعِ التوجهاتِ الفلسفيةِ المعاصِرَةِ المعّمولِ بها أو تلكَ التي تَبحثُ  عن مخرجٍ لأزمةِ الحداثةِ اليوم. فالبيئةُ بعمرانِها أعقَدُ من أن يتمكَنَ أيُّعقلٍ بشريٍّ مِنَ الإلمامِ بتراكُماتِها عبرَ الزمنِ،      

ولكن... أينَ يتِمُّ إطلاقُ العقلِ؟ وأينَ يَجبُ إيقافُهُ؟ بالرجوعِ لتقاليدٍ أو باتّباعِ الشريعة

يُجيبُكَ الكاتبُ عن جميعِ هذهِ الأسئلةِ في كتابهِ، لأنَّهُ يتناولُ العديدَ مِنَ القضايا العُمرانيّةِوالمجتمعيّةِ والبيئيّةِ ويَعرضُها بمنظورٍ إسلامِيّ تشريعيّ، مُلحَقةً بحلولٍ ومسائلٍ واتجاهاتٍ فقهيةٍ مُتخصصةٍ، دُونَ التقيّدِ بمواضِعٍ تاريخيّةٍ أو جُغرافيّةٍ.ولعلَّ اهتمامَ الشريعةِ الإسلاميّةِ بأدّقِ الحقوقِ وتفصيلاتِها بِأن وَصلت لحقوقِ التّمدُنِ والعُمرانِ بزمانها ذاك، سيجعلُكَ تُدرِكُ مزاياها وأفضلّيتها، وستُثبتُلكَ دليلَ أسبقيّتها في التّحضُرِ والتطوّرِ. لِتَرُدَّ بذلكَ على النُقّادِ والمُنظّرينَ بقولِهم أنَّ الإسلامَ دِينُ تقليدٍ لا دِينَ إبداعٍ، ولِتُسكِتَ كُلَّ من يَحتجُّ بقولِ أنَّ الشريعةَ الإسلاميّةَ أوقفتِ المسلمينَ عنِ الدّخولِ في سباقِ التّحضُرِ ومُواكبَةِ التطوّرِ، ذلكَ لأنَّ مصدَرَ انتقادِهم هي المُقارنَةُ بحالِ المسلمينَ اليومَ وما كانوا عليهِ في الماضي.

 

" التّمكينُ للأمّةِ يأتي مِن خِلالِالتّمكينِ للأفرادِ"   -جميل عبد القادر أكبر

تَطرّقَ الكاتبُ بدايةً إلى توضيحِ مُصطلحِ "المدينةِ التقليديّةِ"فبإمكانِنا القولُ أنَّهُ مجموعُ المباني والأماكنِ بينها، التي شيَّدها المسلمونَ باتباعِ مبادِئ الشريعةِ الإسلاميّةِ والأعرافِ المحليّةِ واستخدامِ موادِّ البناءِ المُتوفِرةِ في تلكَ الفترةِ دُونَ تَدخُلِ السّلطةِ إلاّ في حالاتِ الخلافِ بينَ المُلّاكِ. هُناكَ حملةٌ قائِلةٌ أنَّ البيئةَ العُمرانيّةَ الناتجةِ مِنَ الإحياءِ التقليديّ ستكونُ عشوائيّةً لا محالة. لأنَّ البيئةَ التقليديةَ في العالمِ الإسلاميّ  كانت غيرَ مُنتظمةٍ، حيثُ وُصِفت بالعشوائيّةِ وعدمِ التّنظيمِ والمباني المُتلاصقةِ والمتماسكةِ، ولكن هذهِ الحملةأوِ النظرةِ للمدينةِ التقليديةِ الإسلاميّةِ غيرُ مُنصفةٍ. ليرُدَّ عليهم أنَّه في الوقتِ الذي تبدو فيهِ المدينةُ الإسلاميّةُ غيرُ منتظمةٍ، ستُدهِشُكَ بمجالاتٍ أخرى في تنظيمِها، مِن حيثِ إتقانِ البناءِ في الواجهاتِ الداخليّةِ المحيطةِبالفناءِ الداخليّ للمنازلِ والمدارسِ والمساجدِ مثلاً. وستُدهِشُكَ أكثر بجمالِ النِّسبِ ونَقشِ العُقودِ والأقواسِ والقبابِ،و كُلّها دليلٌ على دِقةِ وسُموّالعمارةِ في التّنظيمِ. فالبيئةُ التقليديّةُ ذاتُ الطرقِ المُلتويةِ والضيّقةِالتي لا نراها مُنظّمةً هي أفضلُ ما يُمكنُ الوصولُ إليهِ في تلكَ المجتمعاتِ آنذاك. فهي بيئةٌ ذاتُ جوهرٍ رفيعِ المُستوى، لدرجةِ أنَّ عقولُ الكثيرِ مِنَ النّقادِ لم تتمكّن مِن فهمهِ لأنَّ الظاهِرَ المُتعرّج شتّتَ أفكارَهُم. وأذكُرُ لكَ مِثالاً على ذلكَ، بأنَّ الاهتمامَ بالمباني وما بِداخلها مُقارنَةً بالطّرُقِ، يعني أنَّ المجتمعَ قدِ استثمرَ أكثرَ ما لديهِ في الأماكنِ الأكثرِ استخداماً (المساكِن). وهذا على عكسِ المجتمعاتِ المعاصِرِةِ الأُخرى والتي اهتمّت بإظهارِالبذخِ واكتفت بالقشورِ. كلُّ ذلكَ سيدفَعُكَ إلى إدراكِ أنَّ العُمرانَ يكشِفُ لنا عن التركيبةِ السياسيّةِوالاقتصاديّةِ في الأمّةِ. فمع تطبيقِ الشريعةِ ومع إطلاقِ أيدي النّاسِ وبالتالي تراكُمِ الأموال في أيديهم؛ ستظهرُ علاماتٌ منها أنَّ الخيراتَ تنجذِبُ للملكيّاتِ الخاصّةِ أكثرَ من المشتركةِ. هذهِ إحدى علاماتِ المدينةِ الإسلاميّةِ.

وبعدَ شرحِ الكاتبِ لمصطلحِ البيئةِ التقليديّةِ سيُعرّفُكَ بالغايةِ من دراستِها. فالعمارةُ الإسلاميّةُ تعني بالنّسبةِ للمهنيينَ دِراسةُ وتطويرُ وتطبيقُ الأنماطِ والأفكارِ البنائيّةِ القديمةِ أو التقليديّةِ. وفي الغالِبِ يتّجهُ المعماريونَ والمخططونَ المعاصرون لدراسةِ البيئةِ القديمةِ لاستنباطِ أفكارٍ معماريّةٍ وتخطيطيّةٍ، ومحاولةِ تطبيقها في البيئةِ الحاليّةِ. والبعضُ الآخرُ أكثرُ إدراكاً وتركيزاً على النّواحي الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ للبيئةِ القديمةِ واستخدامِ الفراغاتِ بها.                          

 ومحاولةُ تطويرِ عناصرِ البيئةِالإسلاميّةِ لمُلائمةِ مُتطلّباتِ العصرِ، كبناءِ بيئةٍ تُنمّي الرابطَ الاجتماعيّ وتُلائِمُ المناخَ بأقلِّ التكاليفِ، كاستخدامِ موادِّ بناءٍ تقليديةٍ كالطينِ مثلاً. ولكن مِن وجهةِ نظرِ الكاتبِ، فدراسَةُ البيئةِ القديمةِ تُوضّحُ لنا تراكُمَ تجاربِ الأجيالِ السابقةِ وخبراتها. والتي هي تجارِبٌ لشعوبٍ إسلاميّةٍ ذاتِ إمكانيّاتٍ اقتصاديةٍ وصناعيّةٍ مختلفةٍ عن إمكانيّاتنا الحاليّةِ. فالبيئةُالعمرانيةُ التقليديةُ نتاجٌ نهائيٌّ لعمليةِ التفاعُلِ بين ثوابتٍ كالشريعةِوالمناخِ، وبينَ مُتغيّراتٍ كالإمكانيّاتِ الاقتصاديةِ والصناعيّةِ. لذلكَ من الخطأِ أن نَرجِعَ فقط للنتاجِ النهائيّ المبنيّ، كالمساجدِ والمساكنِ والطرقِ،وذلك لأنَّ المُتغيراتِ قد اختلفت فلابُدَّ من التركيزِ على نُظُمِ ومبادئِ تِلكَ الشعوبِ التي اتبعتها في زمنِها لإنتاجِ هذهِ المباني. مثلَ مبدأِ "لا ضَرَرَ ولا ضِرار"الذي أَخذَ بِهِ أجدادُنا للحُكمِ عل جوازِ بناءِ مبنى جديد، أو إضافةٍ له.                                                                                                                                

 

وسيوضحُ لكَ أيضاً أسبابَ نُموّ البيئةِ وتغيرها، كظاهرةٍ حتميّةٍ ومستمرةٍوأهمها:

 

1.    تَغيُرِ مُتطلباتِ المُلّاكِ، مِثلَ تَغيّرِ أعدادِ أفرادِ الأسرةِ كزيادةِ عددهم أو نَقصهِ.

2.    غريزةُ التطويرِ وإظهارِ الذاتِ لدى البشرِ.

3.    تقدّمِ تكنلوجيا البناءِ.

4.    تغيّرِ البيئةِ المحيطةِ.

5.    تغيّرِ الوضعِ الاقتصاديّ.

 

هذهِ بعضُ عواملِ تغيّرِ المباني والأحياءِ معماريّاً، أمّا المدنُ فتخطيطيّاً.إنَّ التّغيّرَ في التركيبةِ الاقتصاديّةِ أو السياسيةِ للمدينةِ سيؤدي إلى تغيرِأو ظهورِ مناطقٍ جديدةٍ أو حتى مُدنٍ جديدةٍ. فالعواملُ السّابقةُ بالإضافةِ لعواملٍ أخرى لم تُذكر، تُحتّمُ علينا تَقبّلَ ظاهرةِ "تغيّرِ ونموّ المدينةِالمستمر" التي تُؤدي إلى تَغيّرِ التّركيبِ العمرانِيّ للمدينةِ، وبالتالي ستؤدي إلى مضاعفاتٍ يَصعُبُ التًعامُلَ معها مثلَ زيادةِ الحِملِ على البُنيةِ الأساسيّةِ.

لم ينسَ الكاتبُ التطرّقَ لقضيةٍ مهمّةٍ جداً ألاّ وهي دورُ المهندسِ والمخطّطِ في العالمِ الإسلاميّ، والذي لابُدَّ أن يكونَ مختلفاً عن دورِ المعماريّ الذي تبلّورَ في الغربِ ونُقلَ ومازالَ يُنقلُ كما هو إلى العالمِ الإسلاميّ،كشجرةٍ استوائيّةٍ غُرست في منطقةٍ صحراويّةٍ. وهذا حقيقةُ ما أرادَهُ المخطّطونَ ومُتخذُو القراراتِ، فقد كيَّفوا مُجتمعاتِهم لتُلائِمَ مهنتهُم المُستنبطةِ من مجتمعاتٍ أخرى تحتَ شعارِ التطوّرِ دونَ عِلمهم بأنَّهم سحبوا مُجتمعاتِهم إلى كوارثٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وبيئيّةٍ.

فعندَ دراسةِ تاريخِ العِمارةِ يُركّزُ المعماريّونَ على المباني الهامّة مِثلَ المدارسِ والقصورِ، التي بُنيت لترمِزَ لعظمةِ حاكمٍ أو دولةٍ ما أو لتحكي حضارةً.علماً بأنَّ هذهِ المباني ما هِيَ إلا جُزءٌ بسيطٌ من البيئةِ العُمرانيّةِ في ذلكَ الوقتِ، فالغالبيّةُ العُظمى تتكونُ من مبانٍ عاديّةٍ. عليكَ أن تعلمَ أنَّ بالنّسبةِللمعماريّ الغربيّ لم يكُن معرفةُ البيئةِ العُمرانيّةِ واحتياجاتِها أمراً ذا أهميّةٍ حتى الماضي القريبِ، لأنَّهُ يتقبّلُ البيئةَ كما هِيَ، ولأنَّ دورَهُ يقتصِرُعلى تصميمِ وبناءِ مجموعةٍ من المُنشآتِ فقط، بنظرةٍ ماديّةٍ صريحةٍ. إذ أنَّ القوى الاقتصاديّةُ المتصارِعةُ في أمّتهِ تنظُرُ للمشروعِ بماديّةٍ بحتّةٍ دونَ الاكتراثِ بتأثيرِ ذلك على عُمومِ المجتمعِ، على عكسِ نظرةِ أسلافنا للعُمرانِ والمُجتمعِ. فالمُهندسُ الغربيّ لا يُفكرُ في البيئةِ ككُلّ بل يُحاولُ التّعاملَ مع كُلّ الموجوداتِ والمعطياتِ كرأسِ مالٍ وحسب، وهذا نِتاجُ الفِكرِ الرّأسماليّ.لِنفهمَ مِن كُلّ ذلكَ أهمّيةَ دورِنا وضرُورتِهِ والحاجةِ المُلحّةِ لنكونَ مُهندسينَ ومُخطّطينَ فاعلينَ بحقٍ في المجتمعِ المسلمِ.

الفصلُ السابعُ: الأماكن (منصفحة 227 إلى صفحة 244)

 

عزيزي القارئ.. إليكَ بعضَ المفاهيمِ والمُقتطفاتِ العامّةِ التي يجبُ عليكَ الاطلاعُ عليها قبلَ بدئِكَ بقراءةِ فصلكَ المُختارُ من هذا الكتابِ....

استهلَّ الكاتبُ بدايةً في مقدمتهِ بذكرِ العناصرِ التي أظهرتِ البيئةَالتقليديّةَ الإسلاميّةَ بطابِعها المميّز، والتي تُركزُ جميعها على المُلكيّةِ العامّةِ، وهي:

1.    الفناءُ.

2.    الطريقُ غيرُ النافذِ.

3.    المناطقُ العامّةِ (كالطرقِ والساحاتِ).

أمّا المكانُ الرابِعُ فهو ذُو تأثيرٍ غيرِ مُباشرٍ على صياغةِ المدينةِوهو الحِمى.

 

ذكرنا سابقاً الاتهاماتِ الموجهةِ ضِدَّ المدينةِ التقليديةِ بأنَّها عشوائيةٌ وغيرٌ منظّمة، وبالإضافةِ لذلكَ تُتَهمُ بأنَّها غيرُ مراعيةٍ   للحقِ العامِّ لأنَّ سُكانُها لا يحترمونَ الأماكنَ العامّةَ كالسّاحاتِ مثلاً. فهم يحتازونَ على مواضعٍ منها ليجلسونَ فيها، إمّا للبيعِ  أو لوضعِ الأمتعةِ أو البضائعِ. ولكن إن نظرتَ لها بعينِ العابرِ ستشعُرُ أنَّها بيئةٌ غيرُ منتظمةٍ تتميزُ بالفوضى. ولكن لعلَّ الأسواقَ من أهمِّ الأماكنِ التي تُعطيكَ -كزائرٍ للمدينةِ التقليديةِ- هذاالانطباع. فبالرغمِ من تلكَ الاتهاماتِ والانتقاداتِ يمكنكَ القولُ أنَّ البيئةَ التقليديةَ تستطيعُ امتصاصَ التغيراتِ التي يحتاجُها المُجتمعُ وبأقلّ هدمٍ أيضأً،ممّا يرفعُ من استدامتها فهيَ   تمكّنُ السّكانَ من المشاركةِ في تصميمِ بيئتهم مِن خلالِ منظومةِ الحقوقِ في الشريعةِ، والتي ترسمُ حدودَ حقوقِ السّكانِ في المكانِ فيستشعروا المسؤوليةَ ويهمّوا للمساهمةِ بفعاليّةٍفي صياغةِ المكانِ وصيانتهِ. وبهذا تنتشرُ الشورى بينَ النّاسِ وتنتقلُ من القرارِ العُمرانيّ إلى القرارِالسياسيّ، فتنقلُ الأمّةَ من الذُّلّ إلى المجدِ.

 

وعندَ ذكرنا للعناصرِ الإسلاميّةِ لابُدَّ من التّطرُّقِ لأبرزِ عُنصرٍ فيها ألا وهو الفِناء. يُعرّفهُ الكاتبُ بأنَّهُ السّعةُ لغةً،أمّا اصطلاحاً فهو العَقارُ سواءً كان بيتاً أوغرفةً في الدّارِ أو الدّارِ نفسها.وليسَ كما هو شائعٌ بينَ العوامِ بأنَّهُ الفُسحةُ بداخلِ الدّارِ فقط. وعادةً هومكانٌ مُخصّصٌ لاستخدامِ سُكّانِ العقارِ المُلاصقِ للفناءِ سواءً كانَ ذلكَ العقارُ مبنًى سكنيّاً أو تجاريّاً أو صناعيّاً. فتختلفُ الحُدودُ الثلاثةُ (الملكيّةُوالسيطرةُ والاستخدامُ) بالنسبةِ للفناءِ بناءً على موقعهِ، هل هو في طريقٍ واسعٍ أم ضيقٍ؟ وهل هو مُعلّمٌ بعلاماتٍ ممّيزةٍ تُحددهُ أم لا؟ وبالطبعِ فإنَّ لكُلّ فناءٍ من الأفنيةِ تاريخهُ الخاصُّ بهِ. ولكن برأيكَ ما هي مساحةُ الفناءِ؟ تجيبكَ الشريعةُ الإسلاميّةُ بآراءٍ فقهيةٍ مختلفةٍ، ولكنَّ ظاهرَ قولِها أنَّ طولَ الفناءِ وعرضهِ يتحدّدانِ بالاتفاقِ بين الفِرقِ المُستوطِنةِ في الموقعِ، إلاّ إذا ظهرَ اختلافٌ بينهُم. وأمّا بالنسبةِ لحقِّ استخدامِ الفناءِ فلصاحبهِ الانتفاعُ بهِ كيفما أرادَ، كالجلوسِ أو وضعِ المتاعِ أو البضائعِ وما شابهَ من استخدامٍ مباحٍ دونَ التعرّضِ للمارّةِ        أو للجارِ بسوءٍ، وذلك باتّباعِ أمرِ الرّسول ﷺ، فعن أبي سعيدٍ الخُدريّ رضي الله عنهُ، عن النبي ﷺ قال: (إيّاكم والجلوسَ في الطرقاتِ، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها،فقال رسول الله ﷺ: فإذا أبيتُم إلاّ المجلِسَ فأعطوا الطريقَ حقّهُ) أخرجهُ البخاريّ ومسلم.

نذكرُ خِتاماً بأنَّ مُلكيّاتِ الأفرادِ الخاصّةِ هي التي أثّرت في مواضعِ واتجاهاتِ الطرقِ، وذلكَ حسبَ ما قرّرتهُ الفِرقُ المُستوطنةُ وعلاقتِها معَ بعضها. يجبُ أن نعّلمَ أنَّ هناكَ فرقٌ بينَ تحديدِ مكانٍ واتجاهِ الطريقِ، وبينَ بنائهِ مِنَ الجانبينِ وضبطهِ عبرَ الزمنِ، وذلكَ لأنَّ الطريقَ يتغيّرُ خلالَ مئاتِ السنينِ من عمرهِ.

وما قامَ بهِ المسلمونَ لضبطِ تغيّرِ الطرقِ عبرَ القرونِ حتى أخذَ شكلهُ الذي نراهُ اليومَ، لِنرى أنَّ طُرقَ المسلمينَ وساحاتِهم قد تميّزت باللّينةِ،وكلمةُ (لِينَة) مُشتقةٌ منَ اللينِ وهيَ ضِدُّ الصّلابةِ، وهي لا تعني صفةً سلبيّةًولكنَّها تعني المُطاوعةِ والنّزولِ لرغباتِ الآخرين، وعدمِ المُقاومةِ الشديدةِ لهم.

إنَّ الذي حدّدَ الطّريقَ هو تفاعلُ النّاسِ فيما بينهم من مُشاوراتٍ مبنيّةٍ على الأسبقيةِ في الإحياءِ، فكان حلّاً يتماشى معَ الطبوغرافيّةِ في مكانِها.

إنَّها بعضُ اللمساتِ العُمرانيّةِ التي تُشعرُ السّكانَ بإنسانيّةِ المكانِ والّتي لا يُمكنُ أن تأتي إلاّ مِن خلالِ منظومةِ الحقوقِ التي وضَعتها الشريعة.

إنَّ هذا الكتابَ عن العُمرانِ وليسَ عن العقليّةِ المُسلِمةِ، فهوَ ينظرُ لإنتاجيةِ المجتمعِ وسعادتهِ من زاويةِ العُمرانِ. فهوَ بذلكَ يدفعُكَ للمثاليّةِ الّتي قد لا توجد، ويُعينُكَ على نَقدِ الحداثةِ وتقديرِ الشريعةِ التي ظُلمت، وأخذٍها كمنظارٍ للعُمرانِ.وستتيقنُ من أنَّ الشريعةَ الإسلاميّةَ عظيمةٌ تتصفُ بمُلائمتٍها التامّةِ لحياتِنا المُعاصِرةِ في حقليّ التخطيطِ والعمارةِ. فهي تفوقُ جميعَ النُّظُمِ والنَّظريّاتِ المُعاصِرةِ.

إنَّ المادّةَ العلميّةَ لهذا الكتابِ تُوجّهُكَ نحوَ أهمّيةِ البيئةِ ومُعطياتِها لإقناعِكَ بأهمّيةِدراستكَ للشريعةِ، ودورِها وأثَرِها على العُمرانِ. وبدورهِ سيفتَحُ لكَ بابَ الاجتهادِ في الدراسةِ والبحثِ والتدقيقِ، ويُشجعكَ على إعادةِ النَّظرِ في أُسسِ وقواعدِ البيئةِ التقليديّةِ الإسلاميّةِ بآراءِ أصحابِها وأهلِها، بعيداً عن مُدخلاتِ وتنظيراتِ الغربِ وفلسفاتِهِ البعيدةِ، لردِّ غُربَةِ الشريعةِ إلى حياتِنا المُعاصرُةِ،فنحنُ اليومَ بِعُزلةٍ عن شريعتِنا الإسلاميّةِ وحياتِنا العُمرانيّةِ.

عزيزي القارئ.. إليكَ بعضُ التّوصياتِ لقراءةِ فصولِ هذا الكتاب.. إن كنتَ من المهتمّينَ بالشريعةِ أوالقانونِ وعلمِ الاجتماعِ عليكَ بالفصولِ الثلاثةِ الأولى، فهي لُبّهُ وتَعكسُ نكهتهُ وتوجُّههِ. أمّا الفصلُ الرابعُ فهو إطارٌ نظريٌّ لطرحِ مصطلحاتٍ مهمّةٍ لفهمِ باقي الفصولِ. وإن كنتَ من غيرِ المهتمّينَ بالشريعةِ أوالقانونِ، بل بتاريخِ المدنِ الإسلاميّةِ فعليكَ بالفصلينِ الرابعِ والخامسِ، وإن كنتَ من المُنَظّرينَ والنّقادِ فالفصلُ السادسُ مهمٌّ بالنسبةِ لك. أمّا إن كنتَ مهتمّاً بخصائصِ وعناصرِالمدينةِ الإسلاميّةِ فتوجّه لقراءةِ الفصلِ السابعِ مباشرةً. وختاماً مع الفصلِ الثامنِ الأشدِّ تعقيداً، ولكنَّهُ من أجملها وأعظمها لأنَّهُ يوضّحُ عِظَمَ الشريعةِ الإسلاميّةِ حتى في أدقِّ تفاصيلها، ويُثبِتُ أنَّها ليست إلاّ من تنزيلِ خالقٍ عظيمٍ.

المساهمون :
المصادر :

كتاب عمارة الأرض في الإسلام _ جميل عبد القادر أكبر

مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..
مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..
مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..مختارات ..