العمارة ليست مجرد تنظيم للفراغات لتأدية وظيفةٍ ما، أو إبداع كتلٍ غريبةٍ لا مثيل لها فحسب، بل هي أكثر من ذلك بكثير... إنّها علمٌ وفن .. إنّها مزيجٌ فريدٌ لنتاج الإنسانية في كلّ زمانٍ ومكان...إنّها ثمرةُ عقولٍ مبدعةٍ لا تتوقفُ عن الإبتكار .. ولا تعرف حدوداً للمستحيل.. وإذا لاحظنا معظم المعالم الحضارية للأمم السابقة نجد أنّها تتمثل في الإنجازات المعمارية وتحدي قدرات الإنسانية لرفعها إلى مستوياتٍ أعلى.فالعمارة مرتبطةٌ بالإنسان ومتأثرةٌ به لأنّها انعكاسٌ لحياته وأفكاره، وإنّ أيَ تطورٍ في الفكر والمجتمع لابدّ أن ينعكس على العمران بشكلٍ أو بآخر .ولم يعد من المستغرب أن نرى كلّ جديد سواءً أكان في تقنيات التنفيذ أو في الإستخدامات الجديدة والمبتكرة للمباني، فقدرات الإنسان لا يمكن أن نضع لها حداً، طالما هنالك خيالٌ حالمٌ.. وعملٌ جادٌ.. فنحن نستطيع فعل المستحيل. وإنّ من أبرز المباني الأيقونية في وقتنا الراهن، والذي أبهر الجميع بأسلوب عمارته الفريد وتصميمه المميز، والذي يتصدر التصنيف العالمي لأجمل وأحدث المباني، وقد حصل على العديد من الجوائز للتميز والإبداع والتصميم منها: جائزة Architizer .
وقد اعتبرته ناشيونال جيوغرافيك من بين أروع 14 متحفاً على وجه الأرض إنّه"متحف المستقبل" في دبي.
موقعه: يقع المتحف في الإمارات العربية المتحدة في قلب مدينة دبي، شارع الشيخزايد.
أبعاده: يبلغ ارتفاع متحف المستقبل 78 متراً / 225 قدماً، ويشغل مساحةً إجماليةً تبلغ 30548 متراً مربعاً.
رمزيّته: يعد المتحف من المباني الرمزيّة وهو يتميز بتصميمٍ مستقبليٍ يعكس مفهوماً جديداً عن المباني الشاهقة في معظم مدن العالم. فتصميمه الدائري يرمز إلى الإنسانية جمعاء أما التلة الخضراء التي بني عليها فتمثل ارتباط البشر بالأرض، ويحاكي الفراغ في وسطه المستقبل الواعد، المجهول، المفتوح، اللانهائي، والغير محدود.
تصميمه الهندسي: صُمّم متحف المستقبل من قبل شركة "كيلا ديزاين" للتصميمات الهندسية التابعة للمهندس المعماري شون كيلا، وأشرفت شركة "بيرو هابولد"للإستشارات الهندسية على بنائه. ويتألف المتحف من ثلاثة عناصر رئيسيةٍ وهي: التلّ والمبنى والفراغ الداخلي.
وجاء تصميمه كأكثر المباني إنسيابيةً وانسجاماً وإبداعاً في العالم بكتلة غريبة وغير مألوفة للناس وذلك لكسر الجمود بين الكتل الموجودة حوله في دبي وكنوعٍ من أنواع الجذب، فهو يتميز بشكله البيضاوي
الفريد الذي نادراً ما نرى مثيلاً له في العمارة والذي انطلق من فكرةٍ فلسفيةٍ تتمثّل في العين البشرية لأنّه سيمثل عين البشرية التي ستطلّ على المستقبل. ويشرح"شون كيلا" المعماري من الشركة المسؤولة عن التصميم فكرة المشروع قائلا:"يمثل التل الأخضر الأرض بصلابتها وديمومتها وتجذرها في المكان والزمان والتاريخ... أما المبنى العلوي المتألق والسابق لعصره فيجسد الإنسان بقوته وحرفيته وقدرته على الإنسجام والتآلف مع محيطه، كما يمثل الفراغ البيضوي في الهيكل العلوي مفهوم الإبتكار. وقد تم إنشاء ذلك عبر تصميم مساحة فارغة ترمز إلى المستقبل الذي تتطلع له البشرية والعالم بأسره" يرتفع المبنى على تل أخضر يضم أنواعاً مختلفة من النباتات، والهدف من هذا التل رفع المبنى بطريقةٍ لطيفةٍ وهادئةٍ وغير مزعجةٍ فوق خط المترو، وإنشاء مساحاتٍ خضراء بإرتفاع غير مألوفٍ في دبي على شارع الشيخ زايد، ما يلفت الإنتباه إلى المشروع وكأنه يطفو على سطح الأرض.
ويشكل هيكله الرئيسي أبرز معالمه، إذ يصل ارتفاعه إلى 78 متراً ويضم سبعة طوابقٍ بدون أعمدةٍ أو زوايا، وهو مايعتبر معجزةً معماريةً لا مثيل لها، ونال بذلك جائزة تكلا العالمية للبناء.
يحتوي المبنى على:
ستة معارضٍ، وطابقٍ إداريّ فوق المنصة المكونة من 3 طوابق، مع قاعة مؤتمراتٍ، ومحلات بيعٍ بالتجزئة، ومواقفٍ للسيارات، وخدماتٍ مختلفةٍ، بالإضافة إلى الحديقة المحيطة.
ويرتبط المبنى بما حوله بجسرين:
الأول: يمتد إلى أبراج الإمارات جميرة بطول 69متراً.
الثاني: يربطه مع محطة مترو أبراج الإمارات وبطول212 متراً.
ولا يقل جمال التصميم الداخليّ للمتحف روعة من تصميمه الخارجي، فهو يوفّر مساحةً فريدةً تجمع بين المعروضات والمنشآت التفاعليّة والتجارب الممتعة والمتميزة ففي كلّ طابقٍ سيدخل الزوار إلى عالمٍ مستقبليٍ يستكشفونه بشغفٍ ويتفاعلون معه بكلّ جوارحهم. فهناك تجارب مستقبلية فريدة منها:
- الروبوتات الطائرة في سقف قاعة الإستقبال.
-السفر إلى الفضاء الخارجيّ: عن طريق جولةٍ بمركبةٍ تحاكي الحقيقة كنموذجٍ شبه واقعيّ لمحطة الفضاء الدولية (أمل)، ويعيش الزائر أجواء الفضاء ويراقب المجموعة الشمسية ويجرب بذلة الفضاء افتراضياً، وتنتهي الرحلة ويتم الهبوط في دبي وتعرض نافذةٌ مشاهد تخيليةٍ لما ستكون عليه دبي عام 2071 فالزائر يجرب عيش تجربة ما بعد 50 عاماً القادمة.
-مختبر إعادة تأهيل الطبيعة: يعيش الزائر تجربة الغابات المطيرة بأدق تفاصيلها والتي قد لا تلتقطها العين المجردة.
-المكتبة الحيوية: حيث يشاهد الزوار 2500 نموذجٍ للشيفرات الوراثية لنباتاتٍ وحيواناتٍ بعضها مهددٌ بالإنقراض.
- المرصد: ويتم فيه زراعة وتنمية عيناتٍ في ظروفٍ مهيأةٍ خصيصاً لها، بالإضافة إلى قسم آخريهيئ الظروف الطبيعية التي تعيش فيها.
-الواحة: يقوم الزائر فيها بتجارب حسيةٍ بسيطةٍ مدمجةٍ بتجارب تكنولوجيّةٍ متطورةٍ،حيث تشكّل استراحةً للحواس، واستعادةً لتوازن الجسد بضبط الترددات الكهرومغناطيسية بين القرصين والتواصل الحسّيّ بين الزوار عن طريق الهمهمة.
- قسم أبطال المستقبل: يعيش الأطفال فيه تجربة الألعاب التفاعلية التي صممت خصيصاً لتنمية مهاراتهم الفكرية، وتعزيز الثقة بالنفس والشجاعة، ويستوحي أنشطته من نخبة الأفكار والمفاهيم التي تقوم عليها الألعاب الإلكترونية.
-مستقبلنا اليوم: يعرض أحدث التقنيات لطائرات درون والسيارات ذاتيّة القيادة والروبوتات المختلفة.
تم إنهاء الأعمال في المتحف بعد أن استغرقت حوالي 6 سنوات وبتكلفة إجمالية بلغت حوالي 500 مليون درهم إماراتي، وتم افتتاحه رسمياً في22 شباط 2022، وفي تاريخ مميز ندر أن يتكرر ما أضفى عليه المزيد من التميز والتفرد، ويفتح المتحف أبوابه للزوار يومياً من الساعة 10 صباحاً حتى الساعة 6 مساءً.
أهميته:
يعتبر المتحف الوجهة التي ستجذب معظم المهتمين في الأمور التقنية لحضور المؤتمرات العالمية في مجالات التقنية والذكاء الصنعي فمن المخطط أن يكون المتحف محطة استقبال واستضافة للمؤتمرات العلمية والتقنية العالمية المتخصصة على مدار العام بالإضافة إلى النقاشات والحوارات العلمية بالتعاون مع نخبة من الشركاء الدوليين والمؤسسات البحثية المتخصصة في دراسة التحديات الحالية والمستقبلية وتقديم الحلول المبتكرة بما يثري من أهميته العلمية والثقافية ويزيد من جذب السياح والطلاب المهتمين بهذا المجال حول العالم، حيث أنه سيستهدف جذب مليون سائح عالمياً.
ويعد أيضاً كمنصة هامة لتطوير الذكاء الإصطناعي وعرض أحدث الإنجازات والإبتكارات المتصلة به حول العالم وتأثيرها على حياة الإنسان، وذلك بتوفير بيئة متكاملة يتمكن العقول من خلالها من اختبار وتمويل وتسويق أفكار النماذج الأولية والخدمات المستقبلية بطريقة تفاعلية، وهو ما يزيد من أهميته الثقافية والإقتصادية .ويعتبر المتحف وجهة دائمة لإستعراض مستقبل العالم لأنه سيوفر تجربة تفاعلية فريدة من نوعها من
خلال تقنيات الواقع الإفتراضي المعزز تمكن زواره من إلقاء نظرة ثاقبة على المستقبل، ويتيح للمهتمين فرصة التعرف على تأثير الروبوتات والذكاء الإصطناعي في تحسين القدرات البدنية والذهنية للإنسان، وعلى عمليات الإدارة واتخاذ القرار، ويقدم الفرصة لبناء معجزات بشرية تستخدم المتحف لبناء مستقبل أفضل.
وسيتم تعزيز وتغذية محتوى المتحف ومعروضاته بشكل مستدام بأحدث الإنجازات التقنية وآخر الإكتشافات العلمية، وذلك كل ستة أشهر بما يحافظ على ديناميكيته وحيويته، وليواكب أحدث ما وصل إليه العلم من ابتكارات واختراعات.
وكما سيشكل مختبراً شاملاً لتقنيات المستقبل وأفكاره ومدنه، وسيضم مختبرات للإبتكار في معظم مجالات الصحة والتعليم والمدن الذكية والطاقة والنقل، إضافة إلى مختبرات خاصة لإختبار الأفكار، وسيضم منصة لإستعراض إبداعات الشركات التقنية الرائدة عالمياً، وذلك من خلال الإستثمار في العقل المبدع ودعم الأفكار والمشاريع والمبادرات والأبحاث التي تضيف قيمة نوعية وتسهم في تحقيق أثر إيجابي حيث يتبنى المتحف ثقافة استشراف المستقبل فهو رمز لروح الشجاعة والتفاؤل والإبتكار التي تدفع دبي نحو الأمام.
وأخيراً، إن وجدت المقالة مفيدة لا تنسى الإطلاع على باقي مقالات المشاريع المعمارية.
واجهته: صنعت واجهة متحف المستقبل من الفولاذ المقاوم للصدأ، وتتكون من 1024قطعة بالضبط فهي تمثل ال 1024 بايت في الكيلو بايت الواحد، وقد تم تصنيعها عبر عملية تخصصية بواسطة أذرع آلية روبوتية، ويحتوي كل لوح على 4 طبقات، وتم إنتاجها من خلال 10 خطوات عملية، وقد تم تثبيت كل لوح على حدة، وتغطي مساحة إجمالية قدرها 17600 متراً مربعاً، ومضاءةٌ بحوالي 14000 مترٍ من خطوط الإضاءة، وقد استغرق تركيبها حوالي 18 شهراً، وهي مزينةٌ بنقوشٍ لإقتباساتٍ ملهمةٍ لصاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي التي تمثل رؤيته للإبداع والإبتكار وهي:
"لن نعيش لمئات السنين، ولكن يمكن أن نبدع شيئاً يستمر لمئات السنين”
"المستقبل سيكون لمن يستطيع تخيله وتصميمه وتنفيذه، المستقبل لا ينتظر، المستقبل يمكن تصميمه وبناؤه اليوم"
"سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدم البشرية هو في كلمة واحدة: الإبتكار"
وبهذه العبارات الملهمة التي نقشت على سطحه الخارجي يجمع المتحف بين الأصالة العربية والطموحات العالمية ويبرز أهمية المحافظة على التراث والهوية العربية رغم التطور التقني متمثلاً في جمالية الخط العربي وزخارفه الذي أضاف المزيد من التميز على المبنى وبخط مميز صمم خصيصاً لهذه الغاية من تصميم الفنان مطر بن لاحج.
التقنيات المستخدمة في التصميم والتنفيذ: يعود الفضل في إنجاز هذا العمل المذهل إلى التقنيات المتقدمة وتقنيات صناعة المجسمات ثلاثية الأبعاد المتطورة والمستخدمة فيه، إضافة إلى الجهود الجبارة لمئات المهندسين والمعماريين والحرفيين، فقد طبق مصممو المتحف تقنية نمذجة معلومات البناء(BIM)
فاستطاعوا تبسيط عملية البناء والوصول إلى أفضل تصميم للبنى الفولاذية وفق خوارازميات استخدمت للمرة الأولى، وكان من الضروري
إدخال عوامل جديدة مثل وسائل الضغط المستعملة خلال عملية البناء أو تقنيات تثبيت الشبكات الميكانيكية وشبكات الكهرباء وتجهيزات السباكة في الأماكن المناسبة، فأصبح التصميم بالغ التعقيد، وروعي في توزيع النقوش ألا تتعارض مع العقد المعدنية الإنشائية والإنحناءات فأخذ توزيع العبارات قرابة عامٍ كاملٍ حتى تم توزيعها بالشكل الأنسب، وقد صنفته شركة أوتوديسك للبرمجيات الهندسية بأنه المبنى الأكثر تعقيداً في العالم .
الإستدامة في المتحف:
يعتبر المبنى رقم واحدفي الإستدامة على مقاييس لييد، فهو أول متحف يحصل على الإعتماد البلاتيني للريادة في تصميم أنظمة الطاقة وحماية البيئة (LEED)،
وهو أعلى تصنيف للمباني الخضراء في العالم.
ويمثل مستقبل التصميم والبناء وذلك من خلال وضعها لمعايير جديدة ومبتكرة لتحقيق أعلى مبادئ الإستدامة عن طريق استخدام حلول هندسية منخفضة الطاقة وتوفير المياه وإعادة استخدامها والإعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والمتكاملة وتقليل انبعاثات الكربون.
حيث تم تزويده بحوالي 4000 ميغا وات من الكهرباء التي تم إنتاجها عبر الطاقة الشمسية بواسطة محطة توليد خاصة متصلة بالمتحف، إضافة إلى أنه سيوفر مرافق لشحن السيارات الكهربائية، وبفضل تغذيته بالكامل بالطاقة الشمسية فهو يعتمد كلياً على الطاقة النظيفة ويسهم في الحفاظ على البيئة.
وكما تحوي حديقته الخارجية 80 نوعاً وفصيلة من النباتات، ومزودة بنظام ري ذكي وآلي، لتنظيم الري والحفاظ على الموارد.