في سور الصين العظيم في الصين، أو في قصر الحمراء في إسبانيا، قبل آلاف السنين أو في الحاضر، تظهر أبنيةٌ منسجمةٌ مع محيطها، وكأنها شجرةٌ نابتةٌ على الأرض في تناغمٍ تامٍ مع الطبيعة. تلك جدرانٌ لونها لون الأرض ورائحتها رائحة التراب، تلك جدرانٌ بنيت بالتربة المدكوكة. صلبةٌ وصحيةٌ، بسيطةٌ لكنها تتنفس كمن يسكن داخلها، من الأرض وإليها، تقنية التربة المدكوكة أو المضغوطة طبيعيةٌ ومستدامةٌ وصديقةٌ للبيئة وتضفي جماليةً بالغةً على الأبنية.
الأفكار الرئيسية:
تعتبر التربة من أقدم مواد البناء استعمالاً، مما يعود لآلاف السنين. وبالنسبة لتقنية التربة المدكوكة، فقد ظهرت قديماً في شتى بقاع العالم، وقد سُجل أقدم بناءٍ اسُتعملت فيه هاته التقنية في الإمبراطورية الآشورية خمسة آلاف سنةٍ قبل الميلاد.
اعتماداً على الطريقة التقليدية الشائعة، يتم بناء الجدران باستخدام التربة المدكوكة عبر أربع مراحل أساسيةٍ:
يتم استخراج التربة من مكان البناء غالباً، ثم يتم إعدادها لتصبح عجيناً متماسكاً عن طريق خلطها بالماء. ويجب الإشارة إلى أن نسبة الطين بالتربة مسؤولةٌ عن مدى ترابط العجين، وكلّما كانت قليلةً، كان خطر التشقق أكبر. أما نسبة الرمل فمسؤولةٌ عن الصلابة.
بالنسبة للتثبيث، فيمكن للطين وحده أن يكون مثبتاً، لكن الطريقة الأفضل هي إضافة الجير كمثبت. يمكن أيضاً إضافة مثبتاتٍ كيميائيةٍ أخرى على الطين والجير، وفي بعض الأحيان يمكن إضافة الإسمنت ليلعب هذا الدور.
يتم عادةً وضع صفائح خشبيةٍ من جهتي الحائط لصب العجين بالداخل على طبقاتٍ من سمك 15 سنتيمتراً تقريباً. يمكن زيادة سمك الطبقات إلى 20 سنتيمتراً عبر ربط جهتي القالب بأسياخٍ معدنيةٍ تزيد من صلابة القالب. يمكن أيضاً استعمال قوالب مصنعةٍ مسبقاً.
تتم أيضاً عملية دكٍ بعد صب كل طبقةٍ باستعمال أدواتٍ يدويةٍ أو باستعمال جهاز الدك الهوائي. هاته المرحلة مهمةٌ لضمان التماسك بين مختلف الطبقات وكذا للتخلص من الهواء داخل العجين لتفادي خطر التشققات ولتقوية الجدران.
إزالة القوالب عمليةٌ سهلةٌ غالباً ويمكن المباشرة بها بمجرد الانتهاء من الجدار.
تجب الإشارة إلى ظهور عدة وسائل جديدةٍ للبناء بالتربة المدكوكة لتوفير الوقت والجهد ولإنتاج عناصر أكثر تعقيداً. إلا أن المبدأ يبقى واحداً.
بعد الانتهاء من البناء تجب حماية الجدران من الماء لأن التربة غير مقاومةٍ للماء، وكذلك قد تقتضي بعض الحالات استعمال عازلٍ حراريٍ، خاصةً إذا لم تكن الجدران سميكةً بما فيه الكفاية، وفي بعض المناخات الباردة جداً أو الساخنة جداً.
تتميز هاته التقنية بكونها تقنيةً طبيعيةً وصديقةً للبيئة، ويتجلى ذلك في عدة خصائص منها:
فالتربة تحتل الصدارة في سرعة وكمية امتصاص الرطوبة وكذلك طرحها مرةً أخرى في الهواء، مما يحسن جودة الهواء داخل المساكن والأبنية، وبالتالي المساهمة في تفادي الأمراض المتعلقة بالرطوبة وتجويد الصحة الجسدية وكذا النفسية للسكان وللمرتادين.
تتميز عناصر التربة المدكوكة بثقلها وبكتلةٍ حراريةٍ تمكنها من تخزين الحرارة وعزل البناية عن تقلبات درجات الحرارة خارجها.
تقنية التربة المدكوكة لا تستهلك الكثير من الطاقة، خاصةً إذا اعتمدت على الطريقة التقليدية في البناء. ناهيك عن كونها تستنبط مادة البناء من الموقع نفسه، فأثناء الحفر لوضع الأساسات، نكون قد استخرجنا المادة الأساس، التي تكون غالباً صالحةً للبناء، وهنا نستغني عن نقل المواد من مكانٍ آخر وبالتالي توفير الطاقة وتقليل التلوث الناتج عن نقل المواد. بالاضافة إلى ذلك، لا تحتاج التربة المدكوكة إلى عملية الطهو عكس الإسمنت، الذي ينجم عنه انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
العناصر المبنية بالتربة المدكوكة قابلةٌ لإعادة التدوير والاستعمال بشكلٍ كاملٍ، ولعدة مرات. علاوةً على ذلك، فدورة حياتها طويلةٌ مع عدة مواد أخرى. كل هاته العوامل، تجعل منها صديقةً للبيئة وتدرأ عنها احتمالية تلويث البيئة، فحتى عند الرغبة بالتخلص من المبنى، تعود التربة إلى ما كانت عليه، إلى الأرض.
هاته التقنية بسيطةٌ وسهلةٌ لكنها تقتضي خبرةً وإشرافاً من طرف المتمرسين والمختصين طبعاً. إلا أنها تعتمد على وسائل بسيطةٍ مما يجعل منها تقنيةً غير مكلفةٍ، ومتاحةً لعامة الناس كي يبنوا مساكنهم بأيديهم تحت الإشراف.
تحافظ التربة المدكوكة على الأخشاب والمواد العضوية الأخرى نظراً لانخفاض مستوى رطوبتها وشعيريتها المرتفعة، إذ أنها تُبقي العناصر الخشبية التي تظل على اتصالٍ به جافةً. وبالتالي تقلل من خطر الضرر الذي تلحقه الفطريات أو الحشرات بالخشب.
قصر الحمراء أحد أبرز المعالم الإسلامية الصامدة في إسبانيا، والشاهدة على تاريخ المسلمين في الأندلس. وقد استُعملت التربة المدكوكة في بناء هذا الصرح العظيم والبهي والصلب
تقع في موقع "فوجيان تولو" المسجّل في اليونيسكو، وهي منازل دائريةٌ تعود للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد بنيت بتقنية التربة المدكوكة الشائعة محلياً.
يضم حوالي 300 قريةٍ صغيرةٍ بها منازل وقصباتٌ مبنيةٌ كلها بعدة تقنياتٍ أساسها التربة، ونسبةٌ كبيرةٌ منها مبنيةٌ باستخدام التربة المدكوكة. وتعود للقرن الخامس عشر.
رغم مميزات هاته التقنية، إلا أن استعمالها يقلّ تدريجياً بسبب قلة اليد العاملة ذات الخبرة بتقنية التربة المدكوكة، وكذلك التوجه العام نحو الطرق الحديثة والسريعة.