الفن المعماري في مدينة صنعاء القديمة

هديل عبدالله
هديل عبدالله
14.12.2023
 الفن المعماري في مدينة صنعاء القديمة

يمكنك الاستماع للمقالة أيضاً:

المقدمة:

تعد مدينة صنعاء إحدى الأمثلة الحية على التراث الشعبي اليمني وعمارته البيئية، وما تضم من منشآت دينية ومدنية وعسكرية وغيرها، وما تحتويه المدينة من فنونٍ ونقوشٍ وزخارف ومشغولاتٍ وحرفٍ يدويةٍ بديعةٍ، وقد اشتق اسم المدينة من كلمة الصنعة لكثرة الصنع والحرف التي عرفت بها منذ الزمن القديم.

ظلت مدينة صنعاء القديمة وجهة ًسياحيةً للعديد من الرحالة والمسافرين العرب والأجانب طوال هذه السنين، حيث قام بعضهم بوصفها على وجه الدقة، والبعض الآخر تغنّى بجمال عناصرها وزخارفها، فكما قال عنها الأديب والمخرج السينمائي الإيطالي "بيبر باولو بازوليني" أنه (من الناحية المعمارية فاليمن هو أجمل بلدٍ في العالم، وصنعاء هي فينيسيا الجزيرة العربية).

تقع مدينة صنعاء القديمة وسط المرتفعات الجبلية الغربية والعالية لليمن، ووسط سهلٍ فسيحٍ، قاع صنعاء، وعلى امتداد هضبةٍ صغيرةٍ في سفح جبل نقم.

تـاريخـهـــا:

تعد مدينة صنعاء القديمة من أقدم المدن، حيث أنها مأهولةٌ بالسكان منذ أكثر من 2500 سنة، وتعد واحدةً من أهم المدن التاريخية في العالم وأعرقها حضارةً، وعلى الرغم من أن تاريخ المدينة ليس معروفاً بشكلٍ دقيقٍ، إلا أنه وفقاً للأساطير اليمنية القديمة فإن أول من بناها هو سام أحد أبناء النبي نوح عليه السلام، وكذلك تشير بعض الكتب التاريخية إلى أن عمر المدينة يزيد عن 7000 عام.

كانت المدينة في السابق مقراً لحكم خلفاء المسلمين الأوائل، وينعكس تاريخها الإسلامي بكثرة عدد المساجد فيها البالغ عددهم 106 مسجداً، وهي موطن أيضاً لقلعة غمدان التي يرجع تاريخها إلى قبل الإسلام، وهي مكونةٌ من 20 طابقاً، وقد تعتبر أقدم ناطحة سحابٍ في العالم، وتحتوي المدينة على 69 حيّ ومنازلها الطينية حيث تحتوي على 6500 منزلاً طينياً.

وتحتوي المدينة على أربعة أنماطٍ من المباني والأحياء، المتمثلة في (النمط العربي-النمط الإسلامي-النمط العثماني-النمط اليهودي).

مـراحل تطـور المـديـنة:

المرحلة الأولى:

فترة ما قبل الإسلام (910 ق.م- 525 م) قام آخر ملوك سبأ ببناء قصر غمدان، وكان السبب الرئيسي في ازدهار المدينة، ومن ثم بعدها بُني سورٌ حول المدينة من مادة الطين وكان له أربعة أبوابٍ رئيسيةٍ (باب اليمن- باب شعوب- باب السبح- باب ستران)، وبُنيت أيضاً كنيسة القليس وسوقٌ مركزيةٌ للمدينة، وتُعد هذه المباني من أهم المعالم الأثرية للمدينة خلال هذه الفترة.

المرحلة الثانية:

فترة ما بعد الاسلام (627م- 1129م)، استمرت أعمال البناء في المدينة والازدهار وأعمال التوسع العمراني، في عام 627 م بُني الجامع الكبير عند دخول الإسلام للمدينة، وبُنيت أيضاً مجموعةٌ كبيرةٌ من المنازل والأحياء الجديدة، وبَنت الدولة الصليحية في هذه الفترة الجناح الشرقي للجامع الكبير، وقامت بترميم سور المدينة وأضافت إليه أبوابٌ، كما توسعت في هذه الفترة المدينة غرباً وبني حي النهرين وقصر السلطان.

المرحلة الثالثة:

العصر العثماني (1547م- 1629م)، فقام العثمانيون ببناء حيّ جديدٍ سمي بير العزب، وكان مخصصاً لموظفي الدولة العثمانية وأحاطوه بسورٍ، كما بني في هذه المرحلة مسجد البكيرية، وحي اليهود، وغره من الاحياء.

أسـماؤها:

-سميت المدينة بعدة أسماءٍ وهي:

  • (مدينة سام) نسبةً لسام بن نوح عليه السلام.
  • (مدينة آزال) نسبةً لآزال حفيد سام بن نوح، وذكر هذا الاسم في التوراة.
  • (مدينة صنعاء) نسبةً لجودة الصناعة بها، ولأن صناعتها ذات نتاجٍ عالٍ.

الأسواق:

على خلاف غيرها من الأسواق التي تقوم بمواكبة التكنلوجيا في بنائها وتصميمها، لا تزال أسواق صنعاء القديمة هي الرئة التي تتنفس من خلالها مدينة صنعاء القديمة، وهي من أقدم الأسواق في شبه الجزيرة العربية، ويقدر عمرها بـ 2500 عام، وتعتبر من أهم المعالم التي تتميز بها المدينة، ويقدر عددها بـ 25 سوقاً مختلفةً منها (سوق المحِدادة - سوق المنِجارة - سوق المِعصارة - سوق الجنابي - سوق الفضّة - سوق العقيق - سوق الحبوب)، وتتميز بكونها محافظةً على طابعها التراثي الشعبي إلى الآن، وهي أسواقٌ منظمةٌ غير متداخلةٍ مع بعضها البعض، وكل سوقٍ مخصصٌ ببيع سلعةٍ معينةٍ.  وتتكون الأسواق من حوانيت أو دكاكين من طابقٍ واحدٍ مبنيةٌ من الأحجار، فيكون مناسباً لطبيعة المباني والأحياء من حولها بحيث لا تحجب البعد البصري لمنظر المدينة. وما يميزها أيضاً وجود شيخٍ لكل سوقٍ يمثل مهنةً معينةً ينتمي إليها، ويكون مسؤولاً امام الجهات المختصة في حال حصلت سرقةٌ أو أي خلافٍ بين أصحاب المهنة مع بعضهم، أو مع المواطنين.

تصنـيـف مـنظـمـة اليونـسـكو:

 قامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بتسمية مدينة صنعاء القديمة كموقعٍ للتراث العالمي في عام 1986، ووصفت المنطقة على هذا النحو

“تتميز مدينة صنعاء القديمة بالأبراج المبنية من اللبن والطوب المحروق فوق الطوابق الأرضية المبنية بالحجارة، والمزينة بشكل لافت للنظر بأنماطٍ هندسيةٍ من الطوب المحروق والجبس الأبيض. يتناسق لون المباني مع لون التراب النحاسي للجبال المجاورة. داخل المدينة، تخترق المآذن الأفق وتنتشر البساتين الخضراء الفسيحة بين المنازل والمساجد والحمامات وخانات القوافل الملاصقة لبعضها البعض” .

ولدى لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو مجموعةٌ من المعايير التي تستخدمها لتصنيف أي موقعٍ أثري أو تاريخي مهمٍ كموقع للتراث العالمي، مع ضرورة وجود واحد من هذه المعايير ضروري للوفاء بالتصنيف، استوفت مدينة صنعاء القديمة ثلاثةً من هذه المعايير (4-5-6) للحصول على تصنيفها.

النـسيـج العـمـرانـي لـمديـنة صـنعـاء القـديمـة:

تميزت المدينة بالتخطيط العمراني التلقائي المتضامّ، والتطور العضوي المستمر الذي يتكون نتاج احتياج النمو، سواءً أكان في شوارعها الرئيسية التي تتوسط المدينة وتوصل بين أطرافها، أو في شوارعها الفرعية التي تكون داخل الاحياء السكنية، وقد أدى هذا التدرج في الشوارع إلى إنشاء تخطيطٍ مبسطٍ وواضحٍ وتنوعٍ فراغي وسهولة الوصول الى أجزاء المدينة، كما أن تعرج الشوارع وعدم استقامتها واختلاف قطاعاتها على مستوى الشارع الواحد، قد عمل على إعاقة حركة الرياح الباردة والحد من سرعتها وتأثيرها.

مـقـومـات الاسـتدامـة فـي مدينـة صـنعـاء القـديمـة:

بالنظر إلى معايير الاستدامة، نرى أن المدينة قد طبقت معايير الاستدامة وذلك في:

احـترامـها للمـوقـع:

لقد حافظت عمارة صنعاء على طبوغرافية الموقع، فهي مازالت محتفظةً بجبالها التي تحيط بها، والمسطحات الخضراء الموجودة بين مبانيها.

جـودة الـبيئـة الـداخـلية:

وذلك في توجيه المبنى وفقاً للتحليلات البيئية والمناخية، فجاء ترتيب الجهات على حسب خصائصها البيئية، فأعلاها الجهة الجنوبية فالغربية ومن ثم الشرقية فالشمالية، وبالنسبة للجهات الفرعية فقد أتت الجهة الجنوبية الغربية ومن ثم تليها الجنوبية الشرقية، وأقلها قيمةً الشمالية الشرقية، وقد تم توزيع الفضاءات الداخلية نسبةً لأهميتها ومدة استخدامها ونسبة الكثافة في كل فراغ، مع الأخذ بعين الاعتبار نسبة احتياج كل فراغٍ من الإضاءة والهواء، بالإضافة لعمل معالجاتٍ معماريةٍ في الواجهات، كاستخدام الشبابيك الكبيرة التي تعمل على إدخال أكبر قدرٍ من الإضاءة والهواء، واستخدام المشربيات للحد من دخول أشعة الشمس وخاصةً في فصل الصيف.

الـطاقـة:

استخدام مواد محليةٍ تعمل على تخزين الحرارة نهاراً وإدخالها إلى الفراغات ليلاً كـ (الطوب/اللبن).

وبمعايير الاستدامة هذه يمكننا الاستفادة منها للحصول على مبانٍ معاصرةٍ مستدامةٍ، تستقي من أصالة واستدامة المباني التراثية. 

الـعمـارة الخـضـراء فـي مـدينـة صنـعـاء القـديمـة:

سبقت مدينة صنعاء القديمة قبل أكثر من 1000 عام مضت معظم المدن في العالم في تقديم نموذج العمارة الخضراء، فقد شُيدت مباني مدينة صنعاء بمواد طبيعيةٍ محليةٍ من الحجر والطين والطوب والخشب ومادة النورة (الجص)، وهي مواد مستدامةٌ وغير ملوثةٍ وغير ضارةٍ بالبيئة حتى وإن تم هدم المباني فيما بعد فلن تكون مضرةً بالبيئة أو الصحة.

وقد جعل التخطيط العمراني للمدينة معظم البيوت مطلةً على الحدائق والمقاشم(المقاشم: وهي عبارة عن بستان او حديقة ويعمل كمتنفس ومصدر لزراعة الخضروات البسيطة التي يحتاجها سكان كل حي في المدينة.)، والتي تتميز باحتوائها على الأشجار المحلية أو المزروعات التي تجعل منها حدائق خضراء طول السنة، وتعمل هذه المسطحات الخضراء كمرشحاتٍ طبيعيةٍ لتنقية الهواء من الغبار والأتربة، كما تساعد على زيادة نسبة الرطوبة حيث تحتوي المدينة على 40 مقشامة.

وتشير أبحاث المسح الميداني إلى أن نسبة مساحة المسطحات الخضراء تشكل 1/5 من إجمالي مساحة المدينة.

الـزخـارف الجـصيـة لصـنعـاء القـديمـة:

تعد الزخرفة في المدينة ذات أهميةٍ كبيرةٍ، ومن العناصر المميزة وتحظى بعنايةٍ فائقةٍ، فتعتبر العناصر الأكثر سيطرةً في الطابع المعماري للمدينة، وتعتمد الزخارف بشكلٍ أساسيّ على مادة الجص (وهو عبارة عن مادة مشهورة في مديبنة صنعاء القديمة، وهو عبارة عن معدن طبيعي متبلور،وتركيبة الكيميائي كبريتات الكالسيوم المائية)، حيث تكسب المبنى شكلاً جمالياً ومعبراً عن وظيفته، وتختلف كثافة ونوعية الزخارف على واجهات المبنى (الرئيسية-الجانبية-الخلفية)، وكذلك بالنسبة لطوابق المبنى (العليا-السفلى-الوسطى) وبين كل مبنىً وآخر، وهناك ثلاث أنواعٍ للزخارف وهي:

الزخارف الهندسية:

تستخدم بكثرةٍ في القمريات، وتتكون إما من دوائر متداخلة، أو دوائر كبيرةٍ وحولها دوائر، وإما من مجموعة خطوطٍ متداخلةٍ تعمل على تشكيل مجموعة أشكالٍ هندسيةٍ كالمربع والمثلث، او تكون نجوماً خماسيةً وثمانيةً.

الزخارف النباتية:

استخدم الفنان اليمني الزخارف النباتية في تزيين القمريات وغيرها من الأسطح وتعبر الزخارف النباتية غالباً عن الفرح والسرور والبهجة، وتستخدم غالباً مع الزجاج الملون في تزيين النوافذ في الواجهات.

الزخارف الحيوانية:

لم تستخدم هذه الزخارف بكثرةٍ، وإنما وجد القليل منها على هيئة أشكالٍ بسيطةٍ، مثل الطيور والطواويس والأسود، وقد وضعت متقابلةً أو متدابرةً ليوحي بتأثير حراسةٍ للعنصر المراد.

الزخارف الكتابية:

تستخدم بكثرةٍ على أعتاب المداخل وفي الجدران وواجهات المنازل، وتكون إما عبارةً عن آياتٍ قرآنيةٍ، أو أحاديث نبويةٍ، وإما عباراتٍ دعائيةً.

مدينةٌ مسوّرةٌ بالطين الخالد والجمال المتجدد، إنها متحفٌ هندسيٌّ ولوحةٌ نادرةٌ وعجيبةٌ من العجائب تجعل كل من زارها أو رآها من أول وهلةٍ متيماً في جمالها، وتوقظ فيه هواجس الشعر وعبقرية التفاصيل المتواجدة في كل أزقتها، وتتركه عاشقاً لألوان عمرانها ومندهشاً بزخرفتها وحلتها ورونقها.

التـصميـم الجـمالـي لواجـهـات صنـعاء القـديمـة:

تتميز مدينة صنعاء القديمة بطابعها المعماري المميز، والذي يحتوي على مجموعةٍ من العناصر الجميلة التي انتشرت على كافة المباني في المدينة كالمساجد والمنازل والمباني الإدارية وغيرها، وتتمثل هذه العناصر في:

القـمريـة:

وهي عبارة عن عنصرٍ وظيفيٍ وجماليٍ ويكون على هيئة قرصٍ دائريٍ أو نصف دائري، وهي عادةً عناصر تعلو النوافذ.

-الشـاقـوص:

ويمكن أن نطلق عليها اسم (المكيف الطبيعي) وهو عبارة عن فتحةٍ صغيرةٍ لتهوية الغرف، وتوجد في منسوبٍ عالٍ ولها غطاءٌ داخليٌّ، ويزداد اتساع الفتحة كلما اتجهنا الى الداخل، وتعمل على إخراج الهواء الفاسد والأتربة والدخان من الفراغات الداخلية وتقوم بتجديد الهواء، ويظهر على جوانب القمريات.

-المـشربيـات:

وتكون على شكل نسيجٍ خشبيٍّ بأشكالٍ زخرفيةٍ متعددةٍ، تُثبّت على النوافذ الخارجية للمبنى، وتضفي على المباني لمحةً جماليةً، تعمل على الحفاظ على خصوصية المبنى وتوفر الظل داخل المسكن بدون إغلاقٍ تامٍ، وتعمل على ضبط تدفق الهواء داخل فراغات المبنى، وأيضاً تعمل على ضبط رطوبة تيار الهواء المار من خلالها، لطبيعة المادة المصنوعة منها وهي الخشب.

-النـوافـذ الكـاذبـة:

وهي عبارة عن إطاراتٍ كاملةٍ على شكل نوافذ مغلقةٍ (مصمتة) بالحجر أو الياجور، هدفها الحفاظ على الانسجام والتناغم الرأسي والأفقي لواجهات المبنى، وهو أسلوبٌ اتُخذ منذ القدم لمعالجة المسطحات الكبيرة.

المعرض:

تاريخ النشر:

18.12.2023

شارك المقال :
المساهمون :

الإشراف العلمي:

التدقيق اللغوي:

التنسيق:

التحرير:

القراءة الصوتية:

المصادر :
  • صنعاء القديمة: نموذج للعمارة الخضراء، المدينة أونلاين، 2020: هنا
  • مدينة صنعاء القديمة في اليمن، بيت الفن: هنا
  • التراث الشعبي المادي لمدينة صنعاء القديمة، علي سعد سيف، الثقافة الشعبية: هنا
  • الزخارف الجصية بمدينة صنعاء صيانة وترميم القمريات، مجلة الدراسات الأثرية،سليم صالح محمد عبال: هنا
  • صنعاء القديمة:نموذج للعمارة الخضراء، محمد الحكيمي، حلم أخضر: هنا
  • معايير الإستدامة للتصميم الداخلي للمسكن اليمني المعاصر،أ. د/ سمية محمود حسن، أ.م. د/ أسماء حامد عبد المقصود,م/ منى خضر حسين، مجلة العمارة والفنون: هنا
  • مدينة صنعاء القديمة: تاريخ حي تحت التهديد، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية،2021: هنا
مقالات مختارة ..مقالات مختارة ..مقالات مختارة ..
مقالات مختارة ..مقالات مختارة ..مقالات مختارة ..
مقالات مختارة ..مقالات مختارة ..مقالات مختارة ..