لقد تعاملت الحضارات القديمة مع الآثار الثابتة والمتنقلة بطرق مختلفة، تحكمت فيها بشكل عام الأسباب السياسية والدينية والإيديولوجية، ولعب الجهل أحياناً دوراً في الحفاظ عليها أو التخلص من هذه الآثار، وتعتبر هذه الممارسات على اختلافها هي البدايات الأولى لنشأة علم الآثار كما نراه اليوم.
هناك ثلاث ممارسات رئيسية تم التعامل بواسطتها مع هذه الآثار من قبل الحضارت القديمة، حيث قامت هذه الحضارات بما يلي:
حماية الماضي
احترمت الملوك والآلهة التي سبقتها، وكانت حماية آثار الماضي بالنسبة لهم وسيلة لإظهار هذا الاحترام ودرء الظواهر الطبيعية والبشرية، كان من الضروري الحفاظ على هُوِيَّة الماضي، لأن الحاضر والمستقبل مرتبط بها.
الإستيلاء على الماضي
سرقة آثاره وتبنيها، معتقدين بذلك أنهم سيصبحون ورثة لهذه الحضارات.
تدمير الماضي
لأسباب تتعلق بالمعتقدات الدينية أو المواقف السياسية أو الجهل.
سنتناول في مقالنا أمثلة عن سلوك بعض الحضارات القديمة الشهيرة تجاه الآثار الثابتة المعمارية.
الحضارة الفرعونية:
اهتمت هذه الحضارة بآثار الماضي وبالتنقيب عنها احتراماً للآلهة القديمة، و اعتقدوا أن آلهة المصريين خلقوا المَلَكية في بدء الأزمان وأعطوها واجب إبقاء العالم منظّماً، وبالتالي ضمنوا درء الظواهر الطبيعية والبشرية واستمرارية الماضي في الحاضر والمستقبل.
أهم الأمثلة على ذلك الفرعون تحتمس الرابع الذي ينسب إليه أول محاول موثقة في التاريخ للتنقيب عن الآثار في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، حيث جمع فريقاً واستطاع عبر الحفر استخراج اليدين الأماميتين من الرمال لتمثال أبو الهول ووضع بينهما نصب تذكاري كتابي من الغرانيت سمي ب "لوحة الحلم".
ينص هذا النصب على أن الأمير تحتمس الرابع كان يطارد الأسود بعربته في الصحراء، وفي يومٍ ما عندما كان متعباً استراح في ظل أثر مبجل وغط في النوم، فظهر له أبو الهول ووعده بحصوله على المَلَكية والحماية على الأرض، بشرط أن يحرر الأمير جسده من رمال الصحراء التي تغطيه، و هذا ما فعله الأمير حيث أزال الرمال المحيطة بالتمثال وأصبح ملكاً في العام 1400 قبل الميلاد.
الأمير خع إم واست ابن رمسيس الثاني اهتم أيضاً بأعمال التنقيب في المناطق المقدسة في المقبرة الملكية وفي معبد الشمس في ممفيس القديمة، وسجل ما قام به من أعمال في كل مكان نقب فيه، حيث ترك وصفاً يتضمن:
اهتم السومريون بالمزارات القديمة واختاروا الأراضي المقدسة لتكون مكان سكن لهم مثل معبد إيكور أو معبد الجبل، وهو مزار مخصص للإله الأعظم عند السومريين إنليل إله نيبور، حيث اعتقد زوار هذا المعبد في ميزوبوتاميا القديمة أن الإنشاء المعماري للمعبد هو بمثابة جسد المعبد الحي، والترانيم المقدسة هي صوته
ويعود السبب في اهتمامهم بالمزارات والمعابد أنها كانت بالنسبة لهم الرابط بين الآلهة والبشر على الجانب الإلهي المقدس من العالم وهو الجزء الموجود في الحي المقدس، بينما يمثل الملك الرابط بين الآلهة والبشر على الجانب البشري من العالم.
واستمر هذا الإهتمام بالمعابد في عهد السلالات الحاكمة البابلية في النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد، وحققوا نتائج عظيمة في استعادة وترميم أهم المعابد البابلية، كان يتم الاهتمام بإعادة إنشاء هذه الأعمال بحذر شديد على بقايا الأساسات المفترضة نفسها، لأن أي خطأ أو ابتكار ستتم معاقبته بقسوة من قبل الآلهة.
الملوك نبوبولاسر وابنه نبوخذ نصر الثاني، ونابونيدس وهم أهم ملوك بابل، جميعهم حاولوا إيجاد النقوش والآثار القديمة للملوك القدماء.
حاول نبوخذ نصر الثاني استعادة معبد "إبابار" لإله الشمس "شَمَش"، وبحث نابونيد آخر ملوك بابل بالإضافة للمعابد، عن قصور الملوك القدماء، حيث أمر بالحفر في موقع لهيكل قديم يسبق عهده ب3200 عام وهو قصر الملك نارام سين ملك أكاد، وعُرف عن هذا الأمير بأنه كان مولعاً بالآثار واهتم بها اهتماماً شديداً.
إن الأهتمام بالماضي في العالم الغربي خلال العصور الوسطى لأوروبا والتي امتدت تقريباً بين القرنين الخامس إلى الخامس عشر الميلادي، استمر من مبدأ الفضول تجاه الأشياء الغامضة وغير القابلة للتفسير، وتجلى ذلك على هيئة تنقيب متقطع وباهظ لم يفرق بين ما يعود للطبيعة وما يعود لنطاق الثقافة.
ومع انهيار الإمبراطورية الرومانية الكامل في القرن الخامس الميلادي، بدأت حركة هجرة كبيرة من مراكز المدن العظيمة في العصور القديمة، وخلال هذه الحقبة كانت المباني ذات الأهمية الإجتماعية خارج الإستخدام لأنه لم يعد من الممكن صيانتها، وسقطت المباني الدينية وتعرضت للانهيار ووفقاً لوصايا السلطات الكنائيسية السائدة آنذاك، فالمباني القديمة كان يتم نهبها للاستيلاء على الرخام و الأعمدة والتزيينات من أجل بناء مباني عبادة جديدة للمسيحية، ولكن ذلك لم يعن اختفاء جميع آثار الإمبراطورية الرومانية.
في الواقع، لقد اختلفت التصرفات تجاه هذه الآثار من مكانٍ لآخر، في إيطاليا وفرنسا تم هجر عدد كبير من مراكز المدن، التماثيل والمباني غير المزخرفة والتي لم يتم التوصل إلى وظيفتها فيما إذا كانت معابد أو كنائس أو مسارح، كان يتم الإبقاء عليها وهذا الجهل في وظيفة هذه المباني أنقذها من التدمير الذي كانت ستتعرض له فيما لو ثبت أنها تعود للفترة الوثنية.
أحد الأمثلة على ذلك تمثال ماركوس أوريليوس إحدى التماثيل البرونزية النادرة التي نجت، بفضل سوء الفهم لهويته والذي أدى إلى الإعتقاد أنه يمثل الإمبراطور قسطنطين، أول امبراطور في المسيحية والحامي العظيم للدين، وإلا كانت ستتم إذابة هذا التمثال كغيره والإستفادة من مادته في صنع تماثيل أو تشييد أبنية أخرى.
في روما على وجه الخصوص كان يتم استخدام الأبنية التي كانت تتداعى ولكنها ما زالت قابلة لإعادة الإستخدام من قبل العائلات النبيلة كمساكن، ومن جهة أخرى الأبنية الدينية التي كانت حالتها جيدة أصبحت أماكن عبادة للدين الجديد مثل البانثيون الذي بني في عهد الامبراطور أغسطس والذي تحول إلى كنيسة.
ويمكن القول أن عصر النهضة هو الذي مهد الطريق نحو المفهوم الحديث للآثار من خلال بحوث المؤرخين والفنانين، حيث تركز الإهتمام في البداية على الآثار القديمة في إيطاليا، ليشمل بعدها جميع بقايا الماضي الأوروبي وحتى البلدان التي لم تصلها الحضارة اليونانية والرومانية. ونتيجة لذلك، أصبحت بقايا العصور الوسطى وآثار ما قبل التاريخ أيضاً مواضيع بحث ومصادر إلهام للعلماء والفنانين من جميع الأصول.
لتشكل أواخر القرن الثامن عشر(عصر التنوير) بداية تأسيس نظام معماري للحفاظ على الآثار، بهدف حفظ قيم الماضي وذكرياته كما كانت موجودة في العصور القديمة، ونتيجة لذلك أصبحت الآثار تدريجياً موضوعاً للدراسة، فضلاً عن كونها مصادر للمعلومات والتدريب بالنسبة للمعماريين وعلماء الآثار ومؤرخي الفن.
حرّم الإسلام الآثار التي تدعو إلى الشرك بالله كالأصنام والأوثان، وتغاضى عن آثار الديانات السماوية الأخرى كالكنائس المسيحية واليهودية، والمعابد الدينية التي فقدت قدسيتها بين الناس. هناك حكام رمّموا الأسوار القديمة أو أعادوا استخدام مواد البناء الخاصة بهذه الآثار، كما تم تحويل بعضها إلى أماكن عبادة للدين الإسلامي، و من أبرز الأمثلة كنيسة النبي يوحنا المعمدان في دمشق التي كانت في القديم معبداً للإله الآرامي حدد، ثم أصبحت معبداً للإله الروماني جوبيتر قبل تحويلها إلى كنيسة، وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان حولها إلى مسجد سنة 86 هجري/708 م، بعد مفاوضات مع المسيحيين انتهت بالإتفاق على أن يخصص لهم 4 كنائس شرق دمشق مقابل ضم كنيسة يوحنا المعمدان إلى مشروع مسجده الضخم ليصبح المسجد الجامع الكبير في المدينة.
أخيراً، هناك حضارات دمرت آثار الحضارات التي سبقتها لأسباب هي في الغالب سياسية أو دينية، تم تدمير بعض الآثار بوحشية ليمنعوا تلك الحضارات من القيام مجدداً، ومن أهم الأمثلة على ذلك: مدينة بابل التي تعرضت للتدمير من قبل الآشوريين بقيادة الملك سنحاريب، عام 689 ق.م
قام نبوخذ نصر في عام 586 ق.م بتدمير أورشليم/ القدس وهدم جدرانها، كما دمر معبد سليمان ومسح كل أثر فيها.
تم تدمير مدينة كورنث بشكل كلي من قبل الرومان عام 146 ق.م بعد معركة كورنث وإعلان الهيمنة الرومانية على اليونان.
تعرضت روما للتدمير من قبل القوط عام 410 م ثم من قبل الفانداليين عام 455 م ثم من قبل القوط الغربيين والشرقيين والبرغنديين عام 472 م مدينة بغداد التي كانت عاصمة الخلافة العباسية آنذاك، تعرضت في عام 1258م لتدمير وحشي من قبل المغول، حيث دمروا وحرقوا عدداً كبيراً من معالم المدينة وحطموا أسوارها، ودمروا العديد من المكتبات ورموا الكتب في نهر دجلة.
لقد مهدت هذه الطرق والممارسات في الحضارات القديمة الطريق لولادة علم الآثار في العصر الحديث، والذي يهدف بشكل أساسي إلى البحث عن الماضي، أي ماضٍ كان بغض النظر عن أي خلفيات أو أسباب أيديولوجية أو سياسية أو دينية.
الإغريق والرومان:
و بينما اهتم الإغريق بالكتابات الأثرية مثل أرسطو وهيرودوت الذي سافر ليصف آثار وعادات الشعوب، وتوسيديد الذي رسم تاريخ الإغريق منذ البدء، إلى جانب اهتمامهم بالآثار المعمارية مثل الإمبراطور الإغريقي هادريان الذي ولشدة ولعه بالآثار التي زارها شيد في دارته مباني تشابهها، فإن الحضارة الرومانية التي تلتها صبت اهتمامها على الاستيلاء على تحف وأعمال هذه الحضارة، فتم سلب عدد ضخم من الأعمال الفنية الثمينة في القرن الثاني قبل الميلاد، من كل مدن اليونان الرئيسية عندما قررت الجنرالات الرومانية إبادة ملوك اليونان، وجعلها محافظة رومانية. سُرقت مدينة كورينث أجمل مدن اليونان بوحشية، وبني في مدينة روما بإيطاليا متحف كبير لعرض الغنائم التي اكتسبها الرومان في حروبهم، والتماثيل التي تخلد أبطال روما وحكامها، ومن ثم انتشرت لدى رجال الدولة وأباطرتها هواية جمع التحف والأعمال الفنية. حتى جاء يوليوس قيصر بإصلاحاتٍ شهيرة تحرم على الناس جمع التحف في قصورهم الخاصة وجعلها ملكاً للدولة وبدأ من نفسه حيث قام بإهداء مجموعاته الخاصة إلى المعابد.
في العالم الشرقي أيضاً استولى الغزو المغولي للهند على لوحات عديدة تعود لأسياد الفن الإيراني.
وبشكل عام لم يكن الهدف من أعمال النهب هذه هو تدمير الآثار، بل كان هدف هذه الحضارات أن تصبح وريثة في الفن لحضارات الآثار المنهوبة وأن تستولي على تاريخها، مسببة ضرراً لا يقل خطورةً، بسرقة قطع من مساقها التاريخي الأصلي ووضعها في مساقٍ جديد